لغة المعجزة و المنهج
حظيت اللغة العربية بتشريفٍ لا مثيل له حيث جعلها الله لغة كتابه الكريم و معجزة و منهجًا لخاتم الأنبياء نبيه الأمين محمد صلى الله عليه و سلم حيث أن القرآن يتميز عن سائر معجزات الرسل السابقين و عن سائر كتب أحكامهم بأنه جمع المعجزة و المنهج في شيء واحد و كان الرسل السابقون مناهجهم منفصلة عن معجزاتهم فلهم معجز ليثبتوا بها صدق بلاغهم عن الله و لهم كتاب و منهج من الله أما القرآن جاء هو المنهج و المعجزة لأنه جاء للدنيا كلها في كل أزمنتها و أمكنتها فلابد أن تبقى المعجزة مع المنهج.
لغة قومٍ نزل فيهم القرآن
القرآن نزل باللغة العربية لأن العربية هي وسيلة التفاهم مع القوم الذين أرسل إليهم الرسول، وبدأت الدعوة في محيطهم قبل أن تبلغ لغيرهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ {سورة إبراهيم: 4}.
و القرآن نزل باللغة العربية لإثبات إعجاز القرآن، لإثبات صدق الرسالة، فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء بلغاء يتبارى فصحاؤهم في نثر الكلام ونظمه في مجامعهم وأسواقهم، فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، آية قاطعة وحجة باهرة على نبوته، وقال لهم إن ارتبتم في أن هذا القرآن من عند الله فأتوا بمثله، فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، فتنزل معهم فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ولم يكن شيء أحب إليهم من أن يثبتوا كذب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وجدوا أي طريق يستطيعون ذلك من خلاله لسلكوه لشدة عداوتهم له وبغضهم لما جاء به، ولكنهم عجزوا، فدل ذلك أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {سورة البقرة: 33}.
بعض مميزات لغة القرآن
أن القرآن نزل باللغة العربية لما للغة العربية من خصائص ومميزات لا توجد في لغة أخرى، فاللغة العربية من أغنى اللغات كلماً، وأعذبها منطقاً، وأسلسها أسلوباً، وأغزرها مادة، ولها من عوامل النمو ودواعي البقاء والرقي ما قلما يتهيأ لغيرها، وذلك لما فيها من اختلاف طرق الوضع والدلالة، وغلبة اطراد التصريف والاشتقاق، وتنوع المجاز والكناية وتعدد المترادفات، إلى النحت والقلب والإبدال والتعريب، ولقد شهد بعظمتها كثير من المنصفين الأجانب مثل (إرنست رينان) في كتاب (تاريخ اللغات السامية) حيث يقول: من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة القوية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري، عند أمة من الرحل تلك اللغة التي فاقت إخوتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أن علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة.. (مجلة الأزهر مجلد 3 ص 240).
دقة التعبير:
وتمتاز اللغة العربية بدقة التعبير بألفاظها وتراكيبها … أما الألفاظ ففيها لكل معنى لفظ خاص، وحتى أشباه المعاني أو فروعها وجزئياتها، وقد ذكرنا أمثلة من ذلك فيما تقدم، ومن أمثلة دقة التعبير فيها وجود الألفاظ لتأدية فروع المعاني أو جزئياتها، فعندهم لكل ساعة من ساعات النهار اسم خاص به، فالساعة الأولى الذرور، ثم اليزوغ، ثم الضحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزوال، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصبوب، ثم الحدور، ثم الغروب، ويقال فيها أيضًا: البكور، ثم الشروق، فالإشراق، فالرأد، فالضحى، فالمتوع، فالهاجرة، فالأصيل، فالعصر، فالطفل، فالحدور، فالغروب.
واعتبر ذلك تفرع معاني الأفعال، كتفرع فعل النظر إلى: رمق، ولمح، وحدج، وشفن، وتوضح، ورنا، واستكف، واستشف، ومثلها فروع أفعال الجلوس والقيام والمشي والنوم وضروب الأصوات للحيوان والإنسان وغير ذلك، وفي المخصص وفقه اللغة ألوف من هذه الأمثلة، ولا خلاف في أن ذلك من أدلة الارتقاء … ناهيك بالمترادفات في الأوصاف، وهي أكثر من أن تحصى، ولعل العربية أغنى اللغات في الألفاظ المعبرة عن المعاني المجردة وانفعالات العواطف … ففيها لأنواع الحب نحو عشرة ألفاظ، ومثلها للبغض، والحسد والطمع وغيرها.
ومن وسائل دقة التعبير في العربية مزيدات الأفعال، فإن صيغ المشاركة تعبر باللفظ الواحد عن معان لا يعبر عنها في اللغات الأخرى إلا بعدة ألفاظ، كقولنا: تقاتلوا وتقاضوا، وهذه الصيغة خاصة بالعربية.
المترادفات والأضداد:
في كل لغة مترادفات أي عدة ألفاظ للمعنى الواحد، ولكن العرب فاقوا في ذلك سائر أمم الأرض … ففي لغتهم للسنة ٢٤ اسمًا وللنور ٢١ اسمًا وللظلام ٥٢ اسمًا، وللشمس ٢٩ اسمًا وللسحاب ٥٠ وللمطر ٦٤ وللبئر ٨٨ اسمًا، وللماء ١٧٠ اسمًا، وللبن ١٣ اسمًا وللعسل نحو ذلك وللخمر مئة اسم وللأسد ٣٥٠ اسمًا وللحية مئة اسم ومثل ذلك للجمل، أما الناقة فأسماؤها ٢٥٥ اسمًا، وقس على ذلك أسماء الثور والفرس والحمار وغيرها من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهما … ناهيك بمترادف الصفات، فعندهم للطويل ٩١ لفظًا، وللقصير ١٦٠ لفظًا، ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه …
سعة اللغة:
إن كثرة المترادفات في اللغة العربية وتعداد المعاني للفظ الواحد جعلتها واسعة التعبير وسهلت على أصحابها التسجيع، وكان التسجيع شائعًا في الجاهلية بلغة الكهان على أساليب يستقبحها أهل اللغة؛ لغرابة ألفاظها وركاكة تركيبها.
ومن نتائج سعتها اقتدار أصحابها على كتابة المعنى الواحد بعدة تراكيب بين عاطل ومهمل ومنقط أو مشترك، وقد علمنا أن بعضهم كتب تفسير القرآن بألفاظ ليس فيها حرف منقط، وهناك تراكيب يشترط فيها إذا قرأ الألثغ لا تظهر لثغته؛ لخلوها من الراء، وقد خطب واصل بن عطاء خطبة طويلة لم يرد فيها حرف الراء، وكان إذا قال شعرًا لم يورد فيه حرف الراء على الإطلاق١ وذلك لا يتيسر في اللغات الإفرنجية، وقد جرب بعضهم كتابة أسطر بالألمانية بدون راء، فلم يستطع ذلك إلا بشق النفس.
حكاية الأصوات:
ومن خصائص اللغة العربية أن لألفاظها وقعًا على الأذن، له تأثير موسيقي يختلف شدة ولطافة باختلاف التراكيب فيؤثر في النفس تأثيرًا خاصًّا سواء كان نثرًا أو نظمًا، ومن أمثلة الوقع الشديد، وصف الأسد لأبي زبيد الطائي بين يدي عثمان بن عفان؛ فقد قال وهو يصف خروج الأسد عليهم في واد: «فضرب بيديه فأرهج وكشر، فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة، وفم أشدق كالغار الأخوق، ثم تمطى فأسرع بيديه وحفز وركبه برجليه حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعر ثم مثل فاكفهر، ثم تجهر فازبأر فلا وذو٢ بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة فوقصه ثم نقضه نقضة فقضقض متنيه فجعل يلغ في دمه، فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فهجهجنا به فكر مقشعرًّا كأن به شممًا فاختلج رجلًا أعجز ذا حوايا فنقضه نقضة تزايلت منها مفاصله، ثم همهم فقرقر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه من شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع وارتجت الأسماع وشخصت العيون وتحققت الظنون وانخزلت المتون …».
فصاح به عثمان: «اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين» وحكايات الأصوات موجودة في سائر اللغات.
ختامًا لا يمكن حصر مميزات لغتنا الغالية في مقالةً واحدة و لكن نتمنى أننا وفقنا بطرح موضوعنا و الذي يأتي بالتزامن مع أحد أهم الأيام علينا يوم اللغة العربية.
قائمة المراجع:
كاتب المقال : (فريق عمل مبادرة ثراء)
رهيبب
مقالة جميلة و أهم ما يؤكد جمالية هذه اللغة ارتباطها بكتاب الله عز و جل 💜